الحرية لسجين الرأي حنفي ولد دهاه

الأسبوع الثاني.. حتى ولو كان الدهر كله فأنت الأقوى يا حنفي

السبت، 22 أغسطس 2009

حنفي ولد دهاه: محاكمة الإفشين/ أبوالعباس ولد ابرهام


كان الإفشين قائدا عظيما في دولة المعتصم. قدم خدمات جليلة للأمة: قاد الفتوحات وجلد المتهاونين وأمد الدولة الفتية بدم جديد. أخاف الرجعيين فلفقوا له تهما وتعاونوا مع القاضي ورجال البلاط من أجل إثبات الزندقة عليه. وحكموا عليه.
2
في القرون الوسطى عندما كان يلقى القبض –أخيرا- على أحد الثوار كان يوضع مكتوفا على نقالة قذرة ويطاف به في الشارع الرئيسي في طريقه للمحاكمة غير العادلة. في ذالك الشارع العريض تحدث أسوأ علامات النفاق السياسي: عشرات المواطنين يبدؤون في رشق الثوري بالطماطم العفنة، يتراقصون ويتصايحون ضده بأقذع الهجاء والقذف. الكل يسارع في إبراز ولائه للملك الجبان بالإساءة للبطل. الثوري شامخ الرأس بأنفة غريبة بينما جموع الحطابين والباعة المتجولين والدكانيين والسماسرة يقودهم القاضي ووكلاءه وينضم لهم مهرجو المدينة وخصيو زوجة الملك يتسابقون لنيل جائزة الحاكم لصاحب أقسى ضربة تدمي وجه الإنتفاضي.
يجب استدعاء هذه الصورة اليوم في محاكمة حنفي ولد دهاه: عشرات الراشقين الذين لما ينظفوا أياديهم من الطماطم العفن في رشقه يتزاحمون عند باب حاجب السلطان مطالبين بإبراز صفاتهم كراشقين للثوري في انتظار عبارة "ادخلهم". عندئذ، يبدأون بالتقديم المألوف:"سيدي أنا صاحب التلفيقة الفلانية في حقه" و "أنا صاحب الحجارة في جبينه". بعد إذن يدخلون مباشرة في الموضوع الذي هو طلب ترقية أو جائزة.
يجب ختم هذه الصورة بأنه رغم كثرة هؤلاء الأعداء فإن لا أحد منهم يعاني من مشاكل شخصية مع المتهم. بل على العكس هم يتعاطفون معه داخليا -ربما- ولكن القضية قضية حياة بالنسبة لهم. هذا التهافت الذي يجرد الإمسان من إنسانيته هو بالذات مادفع حنفي للكتابة أصلا، وما دفعهم لمحاكمته. إنها جدلية بهذا التبيان.
حتى قبل اعتقاله كان واعيا بهذه الممارسة وكتب متوسلا: " إلهي إنه زمن تستن فيه الفصال حتى القرعى، ويجر فيه الثرى ذيله على الثريا... اللهم إنك تعلم انهما هاجماني بأمعائهما، فهيئ لهما علي الطوى كريم المأكل، ويسر لهما ما يملأ الوعاء، ويسكت الامعاء. و لاتجعل من الحبر الاسود طعاما لكاتب، ولا تجعل من امتهان الكلمة وسيلة طاعم او شارب".
3
في "قضية حنفي" تم خداعي مرتين: المرة الأولى عندما اعتقدت أنه لم يعد في خطر المتابعة السياسية بعد اتفاق دكار. كان قد حزم حقائبه في طريق العودة وقد بدأت عشرات الأصوات القلقة بشغل خطه ناصحة له بعدم العودة بحجة عدم استقلال القضاء ونية النظام متابعته. أجمع جميع المخلصين على حكم واحد: "حنفي، لا تعد. إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك". اثنان فقط خدعا: أنا وحنفي. انتصر انخداعي العقلاني في حينه على تعاطفهم الواقعي في غير حينه. عاد.
جاء انخداعنا، نحن الإثنين، من تعاملنا مع الأنظمة السابقة. كنا قد بدأنا منذ مطلع القرن في نقد الأنظمة الحاكمة بشكل يومي ولقد أكسبنا هذا خبرة في طبيعة الأنظمة القمعية في هذه البلاد. كل هذه الأنظمة قاسية بحق معارضيها: تمنعهم حق التنفس. ولكنها تتفق في شيئ واحد: لا تميل إلى صنع الأعداء كما أنها تميل وقت السلم الأهلي إلى نبذ الإنتقام السياسي. كان حنفي على رأس المطلوبين لما سببه من إحراج يومي وكشف مساوئ النظام، ولكننا اعتقدنا اللحظة السلمية لإتفاق دكار ستقضى على نشوة الإنتقام السياسي. كنا تماما كمفاوضي دكار الذين انخدعوا بقرب إطلاق سراح السجناء السياسيين مع الإنطلاقة الأولى للمفاوضات.
لهذه الأسباب نصحته بالعودة، ولهذه الأسباب انخدعت. اليوم يعرف الجميع أنني لم أكن وحدي في ذالك: إن طبقة سياسية بأكملها قد انخدعت باتفاق دكار.
هذا نظام غير مسبوق هنا في الإنتقامية وعدم الإجترار. إن عزائي الوحيد هو أن هذه النقطة بالذات، نقطة مطاردة السحرة، ستكون نهاية النظام. هذه هي بداية النهاية.
خدعت للمرة الثانية عندما اعتبرت محاكمته أمرا قضائيا يجب السكوت عنه حتى اللحظة الأخيرة. قضى "حنفي" خمسة أيام في معتقل للشرطة يؤرقه السهاد في حضرة أربعة مفوضين للشرطة يسألونه عن مصادر "تقدمي" و المسئولين عن إعطاء الخبر الفلاني والفلاني. خمسة أيام مليئة بالإنتهاكات القانونية وخالية من الراحة ويتم فيها الإتصال بعدة أطراف من أجل حثها على رفع قضايا ضده، ومع ذالك مازال هنالك من يتعلل بأن هذه قضية قضائية وليس سياسية.
عندما تم تكييف التهم جاءت نفس الحجج القديمة في خنق الحرية: التحريض وقلقلة الأوضاع والإساءة للأخلاق العامة ونشر ما لا ينشر، ثم أخيرا القذف. ولقد تم التحكم في حبسه خرقا للشروط القانونية حتى يستوى الأركون على عرشه ويرى رأيه فيه.
رغم كل هذه الإجراءات والتهم السياسية صراحة قال راشقو حنفي: لا، القضية قضية قذف.
4
لم يكن حنفي الكاتب شيئا مقارنة بحنفي الإنسان. ورغم كثرة أعدائه السياسيين والمذهبيين لم يكن له أعداء شخصيون. وحتى إن وجدوا فإن عدائهم الشخصي بدأ سياسيا ومذهبيا.
أنا وهو اشتركنا نفس المحيط الأسري (تقريبا)، ولكن علاقتنا لم تكن قرابية بأي حال. التقينا لأول مرة في 1999 وعلى أساس نضالي محض.
كان قد قطع شوطا قبلي في محاربة القيم الفاسدة في المجتمع، ولقد حدد شخوصا بعينها. ويبدو أنه قد نشر بعض أعماله في شكل "ساميزدات" (مناشير يرفض الجميع نشرها فينشرها المعارض السوفياتي على حسابه). قرأتها، وعندئذ كان من المهم التعرف عليه.
كنا في أوج العهد الطايعي وقمة التحول القيمي المصاحب له، وكان وجود صوت انشقاقي يشبه اكتشاف بشري بعد القضاء على الحياة بنيزك هائل. استمعنا بشغف لبعضنا. كنا عندها قد حسمنا خياراتنا بالعمل ثوريا لمصلحة المعذبين في هذه الأرض. كانت نقاشاتنا التقدمية مليئة بالشفقة على الإنسان ورغم سخريتنا وفكاهيتنا أحيانا إلا أننا تقاسمنا هما عميقا بضرورة الإلتزام بقضايا المظلوم.
كان انطباعي الأول هو أن هذا الفتى ثورة: إنه لا يحتاج لكل الطريق الفلسفي الذي أشقه لكي يتوصل إلى قيم النسبية. بدا لي أنه حقق فتحا فكريا من تلقاء نفسه في احترام الإختلاف وتحكيم الديمقراطية. كان قادرا على وقف الضحك في قمة النشوة بالنكتة لينبه على بعدها العنصري أو الإرهابي منهيا أخلاقية التورط في الضحك لها. كان قادرا على علمنة القيم: تأويلها عقلياعلى ضوء مسلمات الحرية والعدالة. من أين أتى بكل هذه الطفرة؟ هل هي أسفاره ومعايشته للشعوب وسكنه بين مختلف المحيطات الإجتماعية؟ هل هو جو الإختلاف ودائرة معارفه الشخصية الهائلة؟ أم هل هو تكييفه بين العلوم المحظرية التي درس سبعة عشر عاما مع الثقافة الحديثة التي ظل ينهم منها طول الفترة وبعدها؟ شيئ ما بين هذا وذالك أنقذه من بذاءة الإبستيمى في عصره.
كنا ثوارا. كنا ضد النظام من أصله. لم نكن كبقية المعارضة التي تتصارع مع النظام على السلطة. عرفنا أن هنالك قانونا واحدا للأسد والثور، ولقد بحثنا عن قانون جديد. كنا ضد النظام الريعي الذي يركز السلطة في يد الحكومة وتتحكم فيه هذه في الدولة، وبالتالي تستخدم العصبويات والفساد في خلق التبعية. لقد رأينا بشكل عيني كيف ينعكس هذا على المبادئ. شاهدنا بارتياع كيف يباع الإنسان ورأينا آلاف الأرواح النبيلة (سابقا) تنحدر في نخاسة عدمية، ودققنا عن قرب فيما ذهب إليه فوفنارغ من أنه حيثما يرغب الإنسان أن يباع فإنه يجد شارين.
جاءت انتفاضته من لحظة الوعي الكيشوتي بكارثية المال على الأخلاق: "آه أيتها الأشياء التي تلمع التي تجعل السيد عبدا والعبد سيدا". ولقد اتفقنا بتصحيحية يسارية بأن يجب فعل شيئ لإنقاذ الإنسان. كنا نعرف أنه خيار مؤلم ولكننا كنا غارقين في محنة فولكنر: أن نختار بين العدم والألم.
اخترنا الألم.
5
خلص حنفي إلى أن اللحظة الطائعية حاسمة وأن هذه فرصة الضمائر الحية في الهجوم. إنني أتذكره في ذالك الصيف وهو يرد علي بتأتأته المألوفة (عندما انتقدت أسلوبه في الهجوم المباشر) بينما يعد كأسا من القهوة بالبن، بأن هذه الللحظة حاسمة من تاريخ البلاد وأن أصحاب الأخطاء يجب أن يكشفوا بأفظع الكلمات. فتح زاوية "حروف النار" في "القلم" فيما التحقت به أنا بصفحة "بالهمس". كانت حروف النارجنة الثوري: جحيم لكل قوى الظلام. نصب في ذالك العمود خوازيقا للرموز الطائعية وشنقهم فيه في كل حرف. أخذ بنصيحة دالي: أيها الرسام، إذا أردت أن تحقق شيئا في المجتمع يجب عليك، منذ صباك الأول، أن ترفسه رفسة قوية بالساق اليمنى. أدرك أن الإستفاقة لا تأتي إلا من الهزة المتولدة من تلك الرفسة. ولقد ألقى برفساته الأدبية عشرات التنانين في تنور محكمة الأخلاق.
كان الجميع يستغرب من أن حنفي الخلوق هذا هو حطيئة الطائعيين ولم يكن يوم الخميس، موعد صدور الجريدة، يوما سعيدا لأي مسئول طائعي. كانوا يخرجون رؤسهم من تحت الملاءة ارتعاشا: "أينا عليه الدور هذه المرة؟". وأكثر ما كان يزعجهم هو إبداعه الأدبي. ولقد نظر أبو الصحافة الموريتانية، حبيب ولد محفوظ، يوما في إحدى رفساته بشغف ثم تبسم قائلا: إن "هذا يحوى كثيرا من الأدب وكثيرا من قلة الأدب." كانت موهبة حنفي هي تقديم "قلة الأدب" بكل الأدب. كان يقدم رأس المفسد في طشت من ذهب. استطاع في ذالك لوقت المبكر تحدي الحكيم الذي أقر بقدرة الفنان أن يحتوي المثقف ولكنه أنكر العكس.
كان حنفي هو ذالك العكس.
ذهب حنفي إلى أن هؤلاء الإنتهازيين هم من بدأ بشتم الشعب عن طريق استباحة أمواله ووقته. وبالنسبة له كان طبيعا جلدهم بحروف النار. إن لا يفعل فإننا جميعا نخاطر بالدخول في مهزلة هنري دي منترلان: عندما يشتم الناقد الكاتب فإن ذالك يسمى نقدا ولكن عندما يشتم الكاتب الناقد فإن ذالك يسمى شتيمة. كانت مقاربته: لا قدسية. اضرب عنق الخائن.
التحقت بحنفي في القلم في 2003، عام الهيجان (أول عام يعلمنا متلازمة الإنقلاب والإنتخاب) وفتحت صفحة "بالهمس": أخذت موقعي في صف الفيلق المحارب للطائعية. كانت صفحة "بالهمس" صفحة رمزية ومعقدة، كما كان يقول لي القراء. قررت أن تكون "بالهمس" إلى جانب "حروف النار" رغم كل التناقض بين المباشرة هنالك وعدم المباشرة هنا. كان رأيي بأنه بدون صراحة حنفي لا يمكن فهم إضماري أنا. كان حديثي الهادئ هو ما يتبع هديره. كان يشق لي الطريق. كان الغروب وكنت طائر مينيرف. اليوم تبدو لي العلاقة أوضح من قبل: إن حنفي ينشر جثمان الرجعي بـ"حروف النار" أماأنا فأشرح جثته بـ"بالهمس".
كان حنفي مقدمة وبعده كانت تأتي الأشياء. كان باعة الجرائد يقلبون القلم عند عرضها على صفحة "الأخيرة"التي تضم حروف النار من أجل ضمان بيعها (من المحزن اليوم أن أحد راشقي حنفي قال إن شهرته الأدبية هي اختراع من آلته الدعائية، يقصد "تقدمي"، الذي لم ير النور سوى بعد ذالك بستة سنوات). كانت مقالاته تصنع موجات ارتداد مركزها في القراء ولكن أثرها يذهب تدريجيا إلى الجدالات الصالونية فإلى أحاجيج العامة.
لم تكن مجرد حروف. كانت أمواجا.
6
الطريق إلى حنفي في السجن في دار النعيم رحلة. قضيت الوقت وأنا أقرض أظافري بأسناني: "كيف سأعزيه عن سجنه؟ لست جيدا في المواساة." عندما دخلنا عليه انقلبت المعادلة. كان هو الذي يعزينا نحن. كانت معنوياته مرتفعة بشكل لا يوصف ولقد أطار أي شعور بالألم بنكاته وتعليقاته بحيث أننا تساءلنا: أينا المسجون؟
كان ذالك في أجواء الحملة الإنتخابية وقال لنا برؤيوية عميقة بأنه "إذا انهزم النظام سيطلق سراحي، أما إذا انتصر فستأتون أنتم لتقيموا معي." انتابتنا قشعريرة باردة رغم انجرافنا في الضحك.
روح النكتة وقوة الملاحظة لا تفارقه. صلب وقوي. سيخرج من كهفهم أصلب جذعا وأمر عودا. سيقضى فترتهم في شحذ سيفه. أنا واثق من أنه سيعيش أطول من جلاديه. جف القلم بتوفره على ماهو ضروري لذالك: الثورة والفن. ولقد كتب كامي أن الثورة والفن لايموتان إلا مع موت آخر إنسان.
الشيئ الوحيد الذي يمكن أن نتأكد منه في تقلب الزمان هو أنه سيكتب مقالة أخرى من حروف النار يوم سقوط النظام الحالي. إن لا يفعل، سنأخذها من أرشيفه. لسان حاله في هذا هو لسان حال عنترة بن شداد متوعدا ابني ضمضم الناذرين قتله:
إن يفعلا فقد تركت أباهما جزر السباع وكل نسر قشعم.
سينتصر. لقد فعلها من قبل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق