لم أعرف لمَ راودني إحساس بعدم الاطمئنان عندما وقفت أمام واجهة "قصر العدل"، كما لم أدرك سبب الرابطة التي لاحت بمخيلتي عندما قاربت ما بين زاوية الانحناء في تصميم تلك الواجهة وحجم الالتواء على القانون الذي يحدث داخل المكاتب
تجاهلتٌ كل تلك الأشياء الغريبة التي راودتني، وبقيت عند البوابة، بعد أن مٌنعنا من الدخول لأن أحدنا تفوه بالاسم المحظور "حنفي"، وقفت مع بعض الأصدقاء نتلقف الأخبار التي تأتينا من الداخل والتي تقول في مجملها بأن حنفي المعتقل منذ أيام دون أن توجه إليه أي تهمة سيخرج إلينا من البوابة حرا طليقا بعد أن كانت كل الإدعاءات والشكاوي غير كافية للإبقاء عليه رهن الاعتقال، وأكثر تلك الأخبار تشاءماً يتحدث عن إطلاق سراحه بكفالة حيث يبقى ملزما بعدم السفر والتوقيع بشكل يومي لدى إحدى المفوضيات في العاصمة انواكشوط
بقيت جذوة الأمل مشتعلة كأقصى ما يكون، وغابت كل الهواجس المخيفة فاستحالت إلتواءات التصميم الهندسي أمام عيني قببا سماوية لا توحي بشيء سوى صفاء الحرية والعدل
وابتسامة ولد النجيب الغامضة التي كانت تأتي لتحمل معها ما استطاعت من "بشاشة" يصعب عليه في العادة إظهارها، جعلتني أتفاءل على غير عادتي
تذكرت عندما رأيته وهو يحاور المتجمهرين ليطلب منهم الابتعاد عن البوابة ويطمئنهم ويقول لهم بأن كل شيء على ما يرام وأنه لن يحدث إلا ما يتطلعون إليه، تذكرت أن العسكري لا يمكن أبدا أن يكون مفاوضاً ناجحا ولا ديبلوماسياً في المستوى، لأنه مبرمج على إعطاء الأوامر وتلقيها.. لا يسأل لماذا ولا كيف.. ولا يقبل أن يسأل عن أمر أصدره، أما أن يتقبل الرأي الآخر فذاك أمر محال صعب المنال
كان ولد النجيب يقول "اتركونا نقوم بعملنا، واذهبوا إلى أقلامكم واكتبوا ما تشاؤون" ثم يبتسم وكأنه أفحم الجميع، تساءل أحد الحاضرين "وحنفي.. ألم يعتقل لأنه كتب؟" غادر ولد النجيب دون أن يحاول الإجابة، فكان "حكيما" عندما عرف قدره وجاء دونه، فعاد إلى بزته العسكرية تاركا لغة الحوار التي لا يفقه أبسط أبجدياتها
لم أكن أتوقع منه أن يفهم وقوفنا في الشمس، وتضامننا مع حنفي الذي قال عنه "صار" أنه لم يكن يظنه مهما لهذه الدرجة.. مسكين صار الخرف أصبح يهذي، وأراهن أن درجة الهذيان لديه وصلت إلى أعلى المستويات بعد لقاءه بحنفي أمام وكيل الجمهورية عندما قال صار بأنه لا يطالب بأكثر من اعتذار ليسحب شكايته، فأجابه حنفي بأن الاعتذار يقدمه من لا يملك الدليل، أما وتقدمي لديه الدليل فلن يجد اعتذارا واحدا
غضب صار وقال بأنه كان ليكون متسامحا ولكن ما نشره "أبو العباس" على شكل اعتذار جعله يغير رأيه
لو كان صار يعلم أنه سيسكنه بقية حياته هاجس يسمى "تقدمي" فلن يطيب له نوم ولن يهدأ له بال لأن كل الحيطان التي يحيط بها نفسه "على طريق انواذيبو" آذان لتقدمي، وإن استطاع أن ينجح في إبقاء حنفي في السجن بفعل محسنٍ تكرم عليه بأن اتخذ منه قناعاً، فما هي إلا أيام فتنتهي صلاحيته ليجد نفسه مرمياً على وجهه يبكي الأيام التي كان فيها "عزيزا"ا
*** *** ***
مر وقت ونحن أمام قصر العدل قبل أن يتمكن أحد الشباب الدخول إلى الغرفة التي يوجد بها حنفي، ليسلم عليه وينقل لنا الصورة الحقيقية التي نتطلع إلى معرفة تفاصيلها بشغف، فكانت الأخبار التي جلب لنا غاية في السعادة حين أكد لنا أن العمال في مكتب وكيل الجمهورية يعملون على إجراءات إطلاق سراح حنفي، وأن انتظارنا لن يدوم لأكثر من ساعة حتى يخرج علينا من البوابة الكبيرة حرا طليقاً، فعمت الفرحة الجميع وأنا أولهم لأنني بتلك الأخبار استطعت أن أستعيد ثقتي في عدل قال الجنرال ذات رعونة أن الموجود منه سيتم تقسيمه على الجميع، ولكن في إحدى رعوناته التي لا تنسى تحدث عن توسيع السجون وأنها لن تضيق عن أي كان.. إن من رعوناته الناسخ والمنسوخ
كان فهمي متأخراً عن رعونات الجنرال التي لا يمكن مواكبتها، فلم أدرك حينها أن العدل الذي يتحدث عنه ذك الذي بموجبه يتلاعب محسن ولد الحاج بأملاك الدولة في روصو، فيبني ويهدم، ويبيع ويشتري، ويخرج الفواتير بسلاسل لا نهائية من الأصفار عن اليمين.. ذلك هو العدل الذي يعني الجنرال، عدلٌ على من خالفه وعدلٌ لمن معه
عدل كالجحيم يأكل بلا هوادة كل من قال لا، ولمن يريد الخروج من الجحيم والتربع فوق القانون أن يبادر إلى قول نعم للجنرال فلن يعدمه بعد ذلك محامون أكفاء ورجال قانون أقوياء من أمثال ولد اعثيمين فيسنون له الشرائع والقوانين، ويستبيحون براءة الكلمة ويهتكون عرض اللغة نفاقا وتزلفاً، فيجعلون له المحرم مباحاً بل واجبا ما دام من أبناء "نعم" الذين يتقنون هز الرأس بشكل عمودي، ويجهلون هزها أفقياً لأن كل الآفاق التي يتطلعون إليها لا تتجاوز نظرة قزمٍ من العسكر لا يرى أبعد من أنفه
عدل يكون فيه الفساد شعاراً يستخدم لقهر الخصوم وحفظ الأعوان تحت راية الولاء خوفا من أن تنشر ملفاتهم السابقة وملفات أخرى شرعوا فيها بعد الانقلاب.. آلة عمل ماسونية تطلق يد المفسد لتملك الدليل ثم تملك الولاء.. واليافطة الكبيرة التي تعلو كل الجباه "محاربة الفساد"ا
عدلٌ تكون فيه الحقيقة تشهيرا وتجريحا وتطاولا على الخصوصية، وتكون فيه الشخوص أكثر قداسة من الأفكار فلكل الأقلام أن تكتب ما تشاء عما تشاء ومن تشاء، سوى أشخاص معينين فهم فوق القانون ولا يجوز التعرض لهم مهما ساموا أهل هذه الأرض من السوء، يبرمون صفقاتهم فيتاجرون بالوطن في الأسواق المافيوزية كأبخس بضاعة يمتلكونها
*** *** ***
وكيل الجمهورية الحالم يباشر كل شيء وهو يظن نفسه في "دولة القانون" غافلا أو متغافلا عن اغتصاب القانون منذ أزيد من عشرة أشهر، وينسى أنه بيدقاً يتلقى الأوامر وما عليه سوى تنفيذها دون نقاش ولا مراجعة
عليه أن يكون لينا مرنا يمتلك مئات الوجوه وآلاف الجلود حتى يتمكن من مجارات الأوامر التي ترسل إليه، وليعلم أنه في الأخير قد يكون كبش الفداء الذي يرسل إلى المصقلة عندما يصادف ذلك هوى في نفس "المحسن" أو خطراً على مشروع "العزيز"، إنه مشروع التضحية الكبير والفداء الذي يزرع في أنفس الجميع حب "الجنرال" والتضحية في سبيله والهتاف: بالروح بالدم نفديك يا "أرعن"ا
ذلك الوكيل المسكين المرشح في أي لحظة أن يكون سنمار النعمان، استطاع أن ينجح في الاختبار عندما تجاوب مع "الاتصال" الأخير الذي غير مجرى كل الأمور في قصر العدل، اتصال لمدة نصف ساعة كفيل بإلغاء قاضي التحقيق وإدخال أي كان إلى السجن المدني، أحرى حنفي الذي كثر أعداءه بكثرة أعداء الحقيقة
.. مازلنا هنا يا حنفي، وسنبقى
الشيخ ولد محمد حرمه
تجاهلتٌ كل تلك الأشياء الغريبة التي راودتني، وبقيت عند البوابة، بعد أن مٌنعنا من الدخول لأن أحدنا تفوه بالاسم المحظور "حنفي"، وقفت مع بعض الأصدقاء نتلقف الأخبار التي تأتينا من الداخل والتي تقول في مجملها بأن حنفي المعتقل منذ أيام دون أن توجه إليه أي تهمة سيخرج إلينا من البوابة حرا طليقا بعد أن كانت كل الإدعاءات والشكاوي غير كافية للإبقاء عليه رهن الاعتقال، وأكثر تلك الأخبار تشاءماً يتحدث عن إطلاق سراحه بكفالة حيث يبقى ملزما بعدم السفر والتوقيع بشكل يومي لدى إحدى المفوضيات في العاصمة انواكشوط
بقيت جذوة الأمل مشتعلة كأقصى ما يكون، وغابت كل الهواجس المخيفة فاستحالت إلتواءات التصميم الهندسي أمام عيني قببا سماوية لا توحي بشيء سوى صفاء الحرية والعدل
وابتسامة ولد النجيب الغامضة التي كانت تأتي لتحمل معها ما استطاعت من "بشاشة" يصعب عليه في العادة إظهارها، جعلتني أتفاءل على غير عادتي
تذكرت عندما رأيته وهو يحاور المتجمهرين ليطلب منهم الابتعاد عن البوابة ويطمئنهم ويقول لهم بأن كل شيء على ما يرام وأنه لن يحدث إلا ما يتطلعون إليه، تذكرت أن العسكري لا يمكن أبدا أن يكون مفاوضاً ناجحا ولا ديبلوماسياً في المستوى، لأنه مبرمج على إعطاء الأوامر وتلقيها.. لا يسأل لماذا ولا كيف.. ولا يقبل أن يسأل عن أمر أصدره، أما أن يتقبل الرأي الآخر فذاك أمر محال صعب المنال
كان ولد النجيب يقول "اتركونا نقوم بعملنا، واذهبوا إلى أقلامكم واكتبوا ما تشاؤون" ثم يبتسم وكأنه أفحم الجميع، تساءل أحد الحاضرين "وحنفي.. ألم يعتقل لأنه كتب؟" غادر ولد النجيب دون أن يحاول الإجابة، فكان "حكيما" عندما عرف قدره وجاء دونه، فعاد إلى بزته العسكرية تاركا لغة الحوار التي لا يفقه أبسط أبجدياتها
لم أكن أتوقع منه أن يفهم وقوفنا في الشمس، وتضامننا مع حنفي الذي قال عنه "صار" أنه لم يكن يظنه مهما لهذه الدرجة.. مسكين صار الخرف أصبح يهذي، وأراهن أن درجة الهذيان لديه وصلت إلى أعلى المستويات بعد لقاءه بحنفي أمام وكيل الجمهورية عندما قال صار بأنه لا يطالب بأكثر من اعتذار ليسحب شكايته، فأجابه حنفي بأن الاعتذار يقدمه من لا يملك الدليل، أما وتقدمي لديه الدليل فلن يجد اعتذارا واحدا
غضب صار وقال بأنه كان ليكون متسامحا ولكن ما نشره "أبو العباس" على شكل اعتذار جعله يغير رأيه
لو كان صار يعلم أنه سيسكنه بقية حياته هاجس يسمى "تقدمي" فلن يطيب له نوم ولن يهدأ له بال لأن كل الحيطان التي يحيط بها نفسه "على طريق انواذيبو" آذان لتقدمي، وإن استطاع أن ينجح في إبقاء حنفي في السجن بفعل محسنٍ تكرم عليه بأن اتخذ منه قناعاً، فما هي إلا أيام فتنتهي صلاحيته ليجد نفسه مرمياً على وجهه يبكي الأيام التي كان فيها "عزيزا"ا
*** *** ***
مر وقت ونحن أمام قصر العدل قبل أن يتمكن أحد الشباب الدخول إلى الغرفة التي يوجد بها حنفي، ليسلم عليه وينقل لنا الصورة الحقيقية التي نتطلع إلى معرفة تفاصيلها بشغف، فكانت الأخبار التي جلب لنا غاية في السعادة حين أكد لنا أن العمال في مكتب وكيل الجمهورية يعملون على إجراءات إطلاق سراح حنفي، وأن انتظارنا لن يدوم لأكثر من ساعة حتى يخرج علينا من البوابة الكبيرة حرا طليقاً، فعمت الفرحة الجميع وأنا أولهم لأنني بتلك الأخبار استطعت أن أستعيد ثقتي في عدل قال الجنرال ذات رعونة أن الموجود منه سيتم تقسيمه على الجميع، ولكن في إحدى رعوناته التي لا تنسى تحدث عن توسيع السجون وأنها لن تضيق عن أي كان.. إن من رعوناته الناسخ والمنسوخ
كان فهمي متأخراً عن رعونات الجنرال التي لا يمكن مواكبتها، فلم أدرك حينها أن العدل الذي يتحدث عنه ذك الذي بموجبه يتلاعب محسن ولد الحاج بأملاك الدولة في روصو، فيبني ويهدم، ويبيع ويشتري، ويخرج الفواتير بسلاسل لا نهائية من الأصفار عن اليمين.. ذلك هو العدل الذي يعني الجنرال، عدلٌ على من خالفه وعدلٌ لمن معه
عدل كالجحيم يأكل بلا هوادة كل من قال لا، ولمن يريد الخروج من الجحيم والتربع فوق القانون أن يبادر إلى قول نعم للجنرال فلن يعدمه بعد ذلك محامون أكفاء ورجال قانون أقوياء من أمثال ولد اعثيمين فيسنون له الشرائع والقوانين، ويستبيحون براءة الكلمة ويهتكون عرض اللغة نفاقا وتزلفاً، فيجعلون له المحرم مباحاً بل واجبا ما دام من أبناء "نعم" الذين يتقنون هز الرأس بشكل عمودي، ويجهلون هزها أفقياً لأن كل الآفاق التي يتطلعون إليها لا تتجاوز نظرة قزمٍ من العسكر لا يرى أبعد من أنفه
عدل يكون فيه الفساد شعاراً يستخدم لقهر الخصوم وحفظ الأعوان تحت راية الولاء خوفا من أن تنشر ملفاتهم السابقة وملفات أخرى شرعوا فيها بعد الانقلاب.. آلة عمل ماسونية تطلق يد المفسد لتملك الدليل ثم تملك الولاء.. واليافطة الكبيرة التي تعلو كل الجباه "محاربة الفساد"ا
عدلٌ تكون فيه الحقيقة تشهيرا وتجريحا وتطاولا على الخصوصية، وتكون فيه الشخوص أكثر قداسة من الأفكار فلكل الأقلام أن تكتب ما تشاء عما تشاء ومن تشاء، سوى أشخاص معينين فهم فوق القانون ولا يجوز التعرض لهم مهما ساموا أهل هذه الأرض من السوء، يبرمون صفقاتهم فيتاجرون بالوطن في الأسواق المافيوزية كأبخس بضاعة يمتلكونها
*** *** ***
وكيل الجمهورية الحالم يباشر كل شيء وهو يظن نفسه في "دولة القانون" غافلا أو متغافلا عن اغتصاب القانون منذ أزيد من عشرة أشهر، وينسى أنه بيدقاً يتلقى الأوامر وما عليه سوى تنفيذها دون نقاش ولا مراجعة
عليه أن يكون لينا مرنا يمتلك مئات الوجوه وآلاف الجلود حتى يتمكن من مجارات الأوامر التي ترسل إليه، وليعلم أنه في الأخير قد يكون كبش الفداء الذي يرسل إلى المصقلة عندما يصادف ذلك هوى في نفس "المحسن" أو خطراً على مشروع "العزيز"، إنه مشروع التضحية الكبير والفداء الذي يزرع في أنفس الجميع حب "الجنرال" والتضحية في سبيله والهتاف: بالروح بالدم نفديك يا "أرعن"ا
ذلك الوكيل المسكين المرشح في أي لحظة أن يكون سنمار النعمان، استطاع أن ينجح في الاختبار عندما تجاوب مع "الاتصال" الأخير الذي غير مجرى كل الأمور في قصر العدل، اتصال لمدة نصف ساعة كفيل بإلغاء قاضي التحقيق وإدخال أي كان إلى السجن المدني، أحرى حنفي الذي كثر أعداءه بكثرة أعداء الحقيقة
.. مازلنا هنا يا حنفي، وسنبقى
الشيخ ولد محمد حرمه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق