حينما دلفت إلى قاعة المحكمة يوم 6/8/2009 انتابتني مشاعر يصعب تصديقها..كان ذلك في حدود العاشرة صباحا وكان علي أن أستجيب لطلب الشرطي البواب بضرورة إغلاق هاتفي وأن أبحث لنفسي عن مكان وسط جمهور لم أستطع للوهلة الأولى أن أتبين وجها مألوفا داخله.
كان المسرح حينها جاهزا، بل يمكن القول إن المحاكمة كانت على أشدها حيث المحامي ولد أبتي يخلط بمهارته المعروفة بين السياسة والقانون ليكشف تهافت التهم الملفقة، ومع ذلك لم أتأكد تماما من أن المتهم المعروض على عدالة المحكمة هو من كنت أبحث عنه..ليس لأن التهم التي تقذف بها النيابة لم تكن تناسبه فحسب، بل أيضا لأنه كان يدير ظهره للجمهور أمام القاضي مباشرة وكأن هذا "التقليد الموريتاني" يريد الإيحاء بأن المواجهة هي في النهاية بين القاضي والمتهم وحدهما وأن الادعاء والدفاع ليسا أكثر من لاعبي أدوار ثانوية على خشبة المسرح!
لم تكن أول مرة أدخل فيها مثل هذه القاعة لكني توقعت أن أجدها على خلاف ما كانت عليه، توقعت جمهورا آخر وقضاة من صنف آخر .. غابت "الأم الصغيرة" وغابت أغلبية "عمال المصنع" ولم يتجاوز عدد القضاة اثنين: أحدهما جالس بدا كالطفل، مهموم بالسيطرة على القاعة أكثر من اهتمامه بالإصغاء للمرافعات والثاني واقف تنقصه الحجة والحماسة!
هل يمكن أن يحسم مستقبل حنفي بكل هذه السهولة؟ هكذا تساءلت حين أعلن القاضي -بتلقائية مفتعلة- تأجيل النطق بالحكم ليوم 19 أغسطس، ثم حين صدر الحكم الجائر بستة أشهر نافذة وبغرامة مالية، وحين استأنفت النيابة مصرة على تشديد الحكم؟
نعم يمكن أن يحسم مصير ألف حنفي وحنفي بهذه السهولة! هكذا أجبت وأنا أغادر سجن دار النعيم يوم 5/9 حين أدركت أن حنفي بات مجرد رقم في أذهان جلاديه. نعم يمكن أن يحدث ذلك بل يجب خصوصا إذا كان هناك -في مكان ما من هرم السلطة- من يطلب رأس حنفي.
من يطلب رأس حنفي؟
منذ البداية كانت اللعبة مكشوفة، فقصة حنفي لم تبدأ مع شكوى الرئيس مختار صار لأن قصة حنفي هي قصة الصراع التاريخي بين من يقولون لا ومن يفرضون نعم، وهي باختصار قصة انقلاب 6/8. فقد نالت كل المؤسسات المحترمة نصيبها من التحقير، وكل ما تعلمته النخب في مدرجات الكليات أو اكتسبته الجماهير المسيسة في حلقاتها تحول في لحظة هوس إلى "نظام بائد"! كان قانون القوة يشق طريقه على أنقاض قوة القانون! فبأي منطق ينجو منجنيق بحجم "تقدمي" من آثار زلزال مدمر بحجم انقلاب 6/8؟
لا نعرف على وجه الدقة أية قوة داخل النظام وضعت على سلم أولوياتها القضاء على "تقدمي"، لكن المؤكد أن القرار قد اتخذ في مكان ما وأن طاقات هائلة قد رصدت لتنفيذه. وحين نستعيد اليوم بهدوء شريط الأحداث سندرك بشيء من الوضوح حجم المؤامرة التي بدأت بمحاولة التدجين وانتهت بالحكم بسجن أحد أكثر الشباب الموريتانيين التزاما بقضايا التقدم والديمقراطية.
كم من كاتب مأجور دفعوا له من أجل تشويه صورة "تقدمي" ومديره الناشر؟ كم من موقع زرعوه على الشبكة لمضايقة تقدمي والتشهير به؟ كم مرة استخدموا التهديد ضد مراسلي تقدمي؟ ألم يفصلوا أحدهم من وظيفته ويلفقوا تهما ضد آخر أمام القضاء ويسجنوا آخر بتهم لم يعلن عنها حتى الآن؟ وكم مرة حاولوا –ببلاهة أسطورية- حجب تقدمي عن قرائه؟ هل يمكن أن يتصور وينفذ كل هذه المؤامرة أشخاص على هامش السلطة أو حتى من يوجدون في مستوياتها المتوسطة؟
كل الدلائل تشير إلى أن الأمر أكبر بكثير من أمثال ألئك، وإلا فلماذا تستميت النيابة في تلفيق التهم وتفرض الحبس التحكمي وتستأنف الحكم الجائر أصلا لمحاولة تشديده؟ وأكثر من ذلك -لو أن الأمر يتعلق بأشخاص هامشيين- لماذا حين أتيحت أكثر من فرصة لرئيس الجمهورية نراه يمتنع عن إضافة حنفي إلى لوائح المشمولين بالعفو؟ ثم لماذا نراه يتبع معه طريقته في التشهير مع الرئيس السابق ولد الشيخ عبد الله حين يقول للصحافة بأن "الأفضل لحنفي أن يبقى في السجن حتى لا يتم الاعتداء عليه"؟
البقعة المحرمة
حين نشاهد هذا الإصرار المستميت على إدانة حنفي، يكون من حقنا أن نتساءل من هو هذا الحنفي؟ وأي ذنب جناه لتدخل كل الجمهورية في حالة طوارئ من أجل تقييد أنامله؟
مع ذلك فحنفي شاب كغيره من الشباب الموريتانيين كان يمكن أن يقضي كل حياته متبتلا في هدوء من دون أن يثير أي اهتمام خارج وسطه التقليدي الضيق. كان يمكن أن يكون شاعرا مفلقا أو شيخا وقورا أو فقيها ورعا أو تاجرا متمرسا، كان يمكن أن يكون شابا نزقا من أبناء أحياء نواكشوط المترفة يمارس سرقة السيارات والخطف والاغتصاب! كان يمكن أن يكون وجيها قبليا أو موظفا فاسدا يمتهن النخاسة والتضليل ليعيش على حساب ميزانية الدولة! كان يمكن أن يعفي لحيته ويذهب في رحلة قصيرة ليعود محملا بالمتفجرات فيصول ويجول في العاصمة كأخطر إرهابي يهدد السكينة العامة!
نعم كان يمكن أن يكون كل ذلك وأكثر غير أنه اختار مهنة المصاعب، أي أن يكون صحفيا مناضلا لا يمتلك سوى جهاز محمول وشبكة من العلاقات تساعده على تأدية مهمته. ومن دون مبالغة يمكن القول بأنه استطاع أن يحقق نجاحا باهرا.
لقد مزج بمهارة بين نضالية جسورة تعرف كيف تتمسك بالمثل السامية وبين مهنية بارعة تعرف كيف تعيد للعمل الإعلامي رونقه وكيف تنقله من حضيض التزييف إلى قمة التنوير. ظل هادئا وديعا حين كانت مهمته غير معقدة وحين فرضوا عليه المواجهة استطاع بجدارة رفع التحدي.
فلأول مرة تجد وسائل الإعلام الرسمية نفسها محاصرة بمنافس لدود بات يتردد على كل لسان. والمنافس في قانون الدكتاتورية هو عدو يجب تحييده أو القضاء عليه. فعشرات آلاف الزوار يوميا لا يمكن أن تكون رقما مهملا في سجلات نظام يبني سياسته على المحافظة على الرأي العام داخل سجن قفصه الإعلامي الحديدي.
هنا تبرز مشكلة حنفي بكل وضوح حين تجرأ على دخول المجال المحظور، مجال نفوذ الإعلام الرسمي! لم يؤلف بالطبع كتاب "السياسة والخلفاء والأمراء" لكنه دخل البقعة المحرمة وكشف للجميع كم هي مهلهلة وفاقدة للمصداقية، فاستحق غضب السلطان وأصبح يتصدر قائمة المطلوبين.
وهنا يكمن عمق المأساة..ففي طرفة عين يتبخر ذلك الرصيد الذهبي الذي بناه الصحفي المناضل بجهود مضنية لصالح مواطنيه ووطنه، ويتحول هذا المواطن الغيور على تقدم بلده وازدهاره هدفا مشروعا يمكن لرجل أمن أو قضاء أن يمسخه ليجعل منه ما يريد. فالدولة –وهي الهيكل الأكثر نكرانا للجميل- لا تقيد في حساباتها تلك التضحيات التي تبذل من خارج أطرها لأنها لا تعترف بما وراء قدرتها على الضبط، وخصوصا حين تتماهى تلك الدولة مع نظام الحكم الذي يحكمها وحين يتحول رجالها إلى خدم مأجورين لدى الماسك بزمام القوة.
حساء المتسولين
حين يتحدد الهدف تصبح كل الوسائل مشروعة في سبيل تحقيقه. لا يهم ما إذا كان الرئيس صار ستقذف به الظروف ليقدم شكواه، فالنيابة جاهزة تحمل سلتها لتلتقط التهم من هنا وهناك تماما كما يلتقط المتسولون مكونات حسائهم!
فجأة يصبح حنفي متهما بالقذف والتحريض على التمرد والمساس بالأخلاق العامة... وفي أجواء المصالحة الوطنية (اتفاق دكار) يقتاد إلى السجن في حالة تلبس حتى لا يستفيد من الحرية المؤقتة التي قد يجود بها عليه هذا القاضي أو ذاك. ثم تصر النيابة بعد ذلك على أن لا يغادر السجن رغم تأجيل موعد محاكمته لكي لا تتزامن مع مراسيم تنصيب رئيس الجمهورية!
وداخل أروقة القضاء –ومنذ اللحظة الأولى- سيكتشف المراقبون تلك العلاقة الوطيدة بين فكرة القانون وبين إرادة القمع، إذ سيبدو القانون على حقيقته كإحدى تجليات القوة الغاشمة فيما ستبدو إرادة القمع واثقة من نفسها ممسكة بتلابيب القانون المنصاع –ببلادة- لإرادتها!
لا مجال هنا للتفكير في أن حرية التعبير والصحافة هي من الحريات "المميزة" التي يجب الحرص على ضمانها أكثر من غيرها، كما لا يهم ما إذا كان "الباعث الإجرامي" لعب دورا في الوقائع محل النظر ولا حتى ما إذا كان المتهم يجب أن يمثل أمام من يعتبرون أنفسهم قضاته، فكل الجهود منصبة باتجاه اعتصار الإرث التعسفي لإنزال العقاب بالمتهم! ليس الهدف هو تحقيق العدالة وإنما تطبيق "القانون"!
لم تصمد بالطبع تهمة القذف ولا تهمة التحريض على العنف –كما لم تصمد من قبل تهمة "إثارة العامة" على الحلاج- ليتم الاحتفاظ بتهمة "المساس بالأخلاق العامة" –الجاهزة أصلا في المخيال القمعي- وذلك بناء على مساهمات بعض قراء موقع تقدمي! يتجاوز الأمر هنا حدود الازدراء ليلامس حدود الغباء!
فبالإضافة إلى أن النشر في موقع تقدمي وفي غيره من المواقع لا يقع تحت طائلة سوط القاضي الموريتاني، فإن هذا الأخير لم يكلف نفسه عناء التمييز بين وسيلة إعلامية تقليدية تتعالى على المتلقين لتلقي إليهم بمعلومات جاهزة أو بتوجيهات مقدسة عليهم الانصياع لها –كما هي وسائل إعلامنا الرسمية وشبه الرسمية- وبين وسائل الإعلام المحترفة التي تشرك المتلقي معها فيما تقدم والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون مسؤولة عن ما يطرحه المتلقون.
أم أن سيادة القاضي ينطلق فقط من كون موقع تقدمي موقع مقروء على الأرض الموريتانية ومن أن بعض صفحاته تتضمن ما يعتبره "مساسا بالأخلاق العامة" وبالتالي فمسؤولية حنفي قائمة لأنه من جعل تلك الصفحات في متناول الموريتانيين؟ سنسلم مع القاضي جدلا بصحة منطلقاته للحظة.
في هذه الحالة سيكون سيادته قد حكم أيضا على الدولة الموريتانية ب"المساس بالأخلاق العامة" لأنها جعلت في متناول الموريتانيين ملايين بل مليارات الصفحات المخلة بالأخلاق! ألم تربط الدولة كل الجمهورية بشبكة الانترنيت؟ كم من موقع على هذه الشبكة سيعتبره القاضي –انطلاقا من تصوره للمساس- مساسا بالأخلاق؟ كم عد زوار هذه المواقع يوميا من بين شبابنا وشيوخنا؟ لا تملك الدولة طبعا هذه المواقع غير أنها تجعلهم في متناول الزوار كما يفعل ذلك حنفي بل وأفضل وأغزر مما يفعله.
لا يكترث القاضي للتطورات الرهيبة التي جلبتها الثورة الاتصالية والتي حكمت على عهد تقوقع المجتمعات في صندوق الخصوصيات بالأفول، فزوار الشبكة هم الذين عليهم أن يقرروا ما إذا كانوا سيعرضون أخلاقهم "للمساس" أم لا، ومهما بلغت شطارة حنفي فإنه لن يقدم لهم أخطر مما هو متاح أمامهم! ومع ذلك سيستمر هذا النوع من القضاة في التحكم في حريات المواطنين وحتى في درجة حرارة أخلاقهم!
إنها نظرة "باردة" للأخلاق وللتكنولوجيا الحديثة وللقانون، فبدلا من أن تكون مهمة القاضي هي التعامل برفق مع القواعد القانونية لكي تأخذ في الاعتبار التطورات التي تستجد، تصبح مهمته استدعاء التاريخ "وتجميد" النصوص لتتلاءم وأذواق من يمسكون بزمام السلطة.
أن يسجن حنفي من دون الحاجة إلى مبررات ومن دون مباركة القضاء تلبية لحاجة في نفس "يعقوب"، فتلك شنشنة نعرفه من أخزم. لكن أن يسجن باسم القانون وعلى أساس تلك التهم الواهية في ظرفية يكثر الحديث فيها عن موريتانيا الجديدة، فتلك لعمري قاصمة الظهر.
فتحية له يوم ناضل ويوم ظلم ويوم يطلق سراحه.